NE7NA BN7KI

رأي خاص – مسلسل “مش أنا” الأثر العميق في تاريخ الدراما اللبنانية

غادة مخُّول – نحنا:  يعتقد البعض بأن المسلسل اللبناني “مش أنا” قد انتهى مع عرض حلقته الأخيرة ولكن ما من عمل ينتهي بهذا الجمال مخلفًا وراءه أثرًا عميقًا في الوجدان و الذاكرة، يجوب طيفه اليوم معنا من جديد، بقصته الجميلة، بأدوار شخصياتها وعمق بساطتها. يذهلك هذا العمل بقصصه الصغيرة العميقة ما بين السطور، لأنه لا يُنسى، لا يُقارن بغيره وليس من السهل علينا أن نصفه.

 إن قصة “مش أنا” ليست بهذه البساطة التي نراها وليست بحوار مبتكر فقط، فهي كالروح النسيمة التي مرّت بقلوبنا، تلك التي كتبت كارين رزق الله بها ما يختلج أفئدتنا، فأنعشت كل حواسنا وأيقظت جميع أحاسيسنا المختبئة والهاربة من مواجهة حقيقة ما في كل أحد منّا. مَشاهد تعانق وحدتك مع نفسك فتتساءل: هل أنا..مش أنا؟ ثم تشعر مع حوار العيون وتعابير الوجوه بأن دموعك ستبقى عالقة بين عينيك، قلبك وروحك دون أن تجعلك حزينًا.

 قبل أن تبث الحلقات يأخذك الفنان اللبناني مروان خوري إلى حيث لا تدري مع كلماته وموسيقى شارة “مش أنا”، يقطع عليك نصف الطريق لتتأمل، فماذا هنالك بعد هذا الصوت الشجي والإحساس المرهف الحزين؟ فتبدأ خبايا مجتمعنا الشرقي بالظهور، المتناقض والمتعالي عن التعبير بصراحة، فمن هنا تختصر كارين رزق الله، الفنانة الموهوبة والقديرة بعفويتها وعمقها، تفاصيل حياتنا اليومية عامة اللبنانية خاصة، والأبرز ما في القصة التي بين ثناياها قصص كثيرة، هو دور المرأة المعنّفة بصمت (هَنا) والتي تضحّي بسنوات صباها لأجل أن تنقذ أباها من الغرق في الديون، ويجسّد الدور الآخر الممثل بديع ابو شقرا، هو رجل هاجر بلده لبنان إلى فرنسا (مجد) حيث يبدو لنا بأنه رجل شرقي أحب بصدق لكنه تعرّض لخيانة زوجته، يعود من غربته حاملاً انطباعًا منفتحًا على الحياة، مناصرًا للمرأة وحريتها، المؤمن بدورها كشريكة له وليس كتابعة له.

 من خلال قصتهما معًا تسلّط الضوء على مشاكل عدّة مثل قانون العقارات القديمة في لبنان، الأب المكافح الذي يتخلى عنه الجميع (يوسف)، العنوسة والزواج المتأخر (سهام وسلوى) فتثبت لنا كارين رزق الله بأن لا عائق أمام الحب والزواج في سن متقدم. إضافة إلى طرح موضوع الطبقية والمستوى العلمي والاجتماعي، هجرة الشباب وعدم حصولهم على عمل في بلدهم، مفهوم الشباب للفتاة الممتلئة ومشكلة الفتاة مع السمنة وعدم تقبل الآخرين لها (فيرا)، لتوضّح لنا بأن على الفتاة أن تُحّب نفسها أولاً.

 تأخذنا أيضًا كارين رزق الله إلى عالم الصداقة وهو الأهم، فتجعلنا نشك بالصداقة وما تُخبئ من خيانة وغيرة طوال الحلقات لتثبت لنا العكس أخيرًا، بأن الإنسان المُحّب والطيب لن يصبح شريرًا وهذا الدور الذي لعبته باحترافية الفنانة الجميلة أندريه ناكوزي (نادين) وبأن بالقناعة ومع فرص جديدة يمكن لأمور كثيرة أن تتصلّح. لن ننسى ما قدمه دور الراقصة (زينة) وما مثلّه برُقي عن الرجل الشرقي العنيد برأيه وحالة إدمانه للكحول (فؤاد) وهما الزوجان اللذان أحبا بعضهما لدرجة العشق، لكن تفقد زينة نفسها وهويتها بعد سنوات من الزواج، فيبدأ صراعها مع نفسها لتقنع زوجها بأنها تعشق الرقص ولا عيب في أن تفعل ما تحب بعيدًا عن انتقادات المجتمع شرط أن يجد إلإنسان ما يبهج نفسه من الداخل.

 لم تنسَ كارين رزق الله الطبقة الكادحة من العاملين، ففي منزلها (وديعة) و(سوسن) الأم الفقيرة التي تعمل طاهيّة لتربّي ابنتها والتي تتمنى لابنتها أن تحظى بالرغد ومستوى العيش الكريم فترفض حب ابنتها للسائق الفقير، ثم دور الأم المتفائلة لكنها وحيدة (جميلة) تزوج زوجها بإمرأة أخرى، تاركًا لها ابنًا رائعًا لترعاه بمفردها (موني) وهي التي لم تيأس يومًا حتى بعد اكتشاف مرض ابنها بداء السكري الذي يعاني منه نسبة كبيرة من أطفال الوطن العربي والعالم، فتعالج الموضوع بشكل سلس لتجعل رغم الصعاب من كل أم سيدة قويّة ومثابرة أن تمتلك الشجاعة في قرارة نفسها وتُلخّص لنا بأن السعادة تكمن في قناعاتنا وليس بما يوحّي لنا المظهر.

يأتي هذا المسلسل الجميل بإطار غير مصطنع ورائع ليدعم المرأة وحريتها وحقوقها دون مبالغة أو عنف وضرر أمامك، فتشعر بحريتك من خلاله. “مش أنا” تربّع على عرش قلب كل مشاهد تابعه بشغف، حمل إلينا الوطن في داخلنا، وجع الغربة، إصرار الحب والكثير من الأمل. لم يبقَ شيئًا مستحيلاً لتحقيقه! هذا ما أراد أن يوصله لنا فريق العمل المحترف برسالة حب عميقة مفصّلة، إنه الحب الذي يفوق حدود امرأة ورجل ليصبح مُطلقًا بين كل إنسان وإنسان.

نعم، يثبت لنا “مش انا ” بأن المرأة ستبقى نصف المجتمع، بدور الجمال وترسيخه في التضحية، الحب، الغيرة، العلم والاستمرارية. شكرًا لروعة الأداء ووجود كل الشخصيات المختلفة كما هي في بيوتنا، بين أهلنا وأصدقائنا، هنيئًا للفرح الذي لن يترك نفوسنا بعد الآن ونحن الذين نعشق الجمال منتظرين المزيد من الإبداع طالما هناك من يحرص على إظاهر الدراما اللبنانية بهذا العطاء السخيّ. محبة من القلب لكل طاقم هذا العمل الرائع، لكل وردة نبتت على نافذة الروح، لكل دمعة أوجعتنا في الصميم ومسحت عنّا غُبار الصمت الدفين. شكرًا للحريّة الخجولة في كل عين امرأة لم تستطع يومًا أن تقول ما قالته كارين رزق الله في نص عميق المضمون وثاقب الرؤيا والوضوح. مسلسل “مش أنا” لم ينته بعد، فهو دائم في أعماقنا..فمن ذاك الذي يكّف عن البحث عن نفسه كلما ضاعت؟

مسلسل مش نا من بطولة كارين رزق الله و بديع ابو شقرا و أندريه ناكوزي و  ريتا عاد و روديغو سليمان، ونخبة من الممثلين اللبنانيين، ومن إخراج جوليان معلوف وإنتاج شركة m&m.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى